24. المعمدانيُّون: أبطال الحرِّيَّة الدينيَّة

‘‘فإنَّكُمْ إنَّما دُعيتُمْ للحرِّيَّة أيُّها الإخوَةُ. غَيرَ أنَّهُ لا تُصَيِّروا الحرِّيَّة فُرصَةً للجَسَدِ، بل بالمَحَبَّةِ اخدِموا بَعضُكُمْ بَعضًا’’.
(غلاطِيَّة 5: 13)

اقتبسَ القسُّ المعمدانيُّ الشهير جورج دبليو. ترويت (1867م-1944م)، في عظةٍ عن المعمدانيِّين والحرِّيَّة الدينيَّة، مقولةَ المؤرِّخ الأميركيِّ جورج بانكروفت عندما قال: ‘‘إنَّ حرِّيَّة الضمير وحرِّيَّة العقل غير المحدودة كانتا منذ البَدء سرَّ انتصار المعمدانيِّين’’.

كما اقتبس ترويت أيضًا ما قاله الفيلسوف الإنكليزيُّ جون لوك: ‘‘كان المعمدانيُّون أوَّلَ دعاةٍ إلى الحرِّيَّة المطلَقَة، والحرِّيَّة العادلة والحقيقيَّة، والحرِّيَّة المتساوية والمحايدة’’.

النضالُ من أجل الحرِّيَّة الدينيَّة

كان المعمدانيُّون حقًّا من بين القادة المناضلين في سبيل الحرِّيَّة الدينيَّة، لكنَّهم دفعوا ثمنًا باهظًا على مدى زمنٍ طويل. في الواقع، لا تزالُ الحرِّيَّة الدينيَّة نادرةً. في الأيَّام الأولى من الحركة المسيحيَّة، اضطَهَدَ المسؤولون الحكوميُّون المؤمنين بقَسوة. وعلى مدار العصور الوُسطى وعصر الإصلاح البروتستانتيّ، كانَتِ الحرِّيَّة الدينيَّة غير موجودةٍ عمليًّا حيث استعانَتِ الكنيسة الكاثوليكيَّة والكنيسة البروتستانتيَّة بمساعدة الحكومة في اضطهاد المختلفين مع عقائدهم.

في إنكلترا، تجرَّأ توماس هيلويس (1556م-1616م)، الذي كان أوَّل قسٍّ معمدانيٍّ على أرضٍ إنكليزيَّة، وتحدَّى ادِّعاء الملك بأنَّه صاحِبُ السُّلطة في الشؤون الدينيَّة. ألَّفَ هيلويس كُتَيِّبًا عام 1612م بعنوان ‘‘إعلانٌ مختصرٌ لسرِّ الإثم’’، وأَرسَل نُسخةً موقَّعةً إلى الملك جيمس الأوَّل مع رسالةٍ شخصيَّةٍ تقول: ‘‘الملك إنسانٌ فانٍ وليس إلهًا، وليست لديه سُلطة على النفوس الخالدة مِن رعاياه، ولا أن يشرِّعَ القوانين ويضعَ الفرائض لهم، ولا أن يحدِّدَ الأربابَ الروحيَّة لهم’’.

بسبب الإعلان الشجاع لهيلويس عن القناعات المعمدانيَّة حول الحرِّيَّة الدينيَّة، ألقاه الملك جيمس في السجن حيث مات هناك…في سبيل الحرِّيَّة الدينيَّة، ليس للمعمدانيِّين فقط، بل لجميع البشر. كما عانى كثيرون آخرون من أجل هذه القضيَّة. مثلًا، عانَى جون بنيان (1628م-1688م)، مؤلِّف كتاب ‘‘سياحة المسيحيّ’’، في سجنٍ إنكليزيٍّ سنواتٍ عدَّة؛ لأنَّه لم يقبل، بصفته قِسًّا معمدانيًّا، تقييد الحرِّيَّة الدينيَّة.

في أميركا، تعرَّض روجر وليَمز (1603م-1683م) للاضطهاد من أجل آرائه حول الحرِّيَّة الدينيَّة، فهرب عام 1636م إلى ماساتشوستس واحتمى بأصدقائه الهنود (من السكَّان الأصليِّين). وفي الربيع، أسَّس مستعمرةَ رود آيلاند مع ضمان حرِّيَّة الضمير لجميع المواطنين، وساعدَ أيضًا في تأسيس أوَّل كنيسةٍ معمدانيَّةٍ في نصف الكُرة الغربيّ.

غير أنَّ الحرِّيَّة الدينيَّة كانت سلعةً نادرةً في أرجاء العالم الجديد، فأطلق المعمدانيُّون جهودهم شمال الساحل الشرقيِّ وغربه لتحقيق الحرِّيَّة الدينيَّة. ونتيجةَ ذلك تعرَّضَ المعمدانيُّون للجَلْد علنًا والسجن والعقوبات على يد المسؤولين الحكوميِّين، وعانوا الضربَ والاستهزاءَ بهم على يدِ أُناسٍ غير متعاطفين مع قضيَّتهم.

أخيرًا، بالجهود التي بذلها قادةٌ مثل إسحاق باكوس (1724م-1806م) في نيو إنغلاند، وجون ليلاند (1754م-1841م) في فيرجينيا، تمكَّن الصوتُ المعمدانيُّ مِن لفت الانتباه، وانضمَّ إليه آخرون. مثلًا، أفادَتِ التقاريرُ بأنَّ ليلاند التقى جيمس ماديسون تحت شجرة بلُّوط في مقاطعة أورانج، ولاية فيرجينيا، وحصلَ على تعهُّدٍ من ماديسون بالعمل على تعديل الدستور الجديد بغيةَ توفير الحرِّيَّة الدينيَّة. وبالفعل، حدث تعديل لدستور الولايات المتَّحدة- الذي كان يعيبه في البداية افتقاره إلى ما يضمنُ الحرِّيَّة الدينيَّة- تحت قيادة ماديسون بعد أن سعى إلى توفير مثل هذا الضَّمان. وللمرَّة الأوَّلى في التاريخ، توفِّر أُمَّةٌ الحرِّيَّة الدينيَّة الكاملة لمواطنيها.

أُسُس الحرِّيَّة الدينيَّة

لماذا كان المعمدانيُّون مستعدِّين لدَفْع مثل هذا الثمن الباهظ من أجل الحرِّيَّة الدينيَّة؟ ولماذا كانوا راضين ليس فقط بالتسامح، بل روَّجوا أيضًا الحرِّيَّة الدينيَّة لأنفسِهم، وللجميع أيضًا؟ نجد الإجابة في القناعات المعمدانيَّة الأساسيَّة حول طبيعة الإيمان المسيحيّ.

يرتبط الإخلاصُ المعمدانيُّ للحرِّيَّة الدينيَّة ارتباطًا وثيقًا بالحقائق الكتابيَّة الأُخرى التي تمثِّلُ المجموعةَ المتنوِّعة للمعتقدات والممارسات المعمدانيَّة، والحرِّيَّة هي جزءٌ لا يتجزَّأُ منها.

  • حرِّيَّة اتِّباع المسيح. يكشف الكتاب المقدَّس أنَّ الربَّ يسوع يدعو الناس ليتبَعوه (متَّى 7: 21-27، 16: 24-25). لكنَّ هذا الاتِّباع يجب أن يكون طوعيًّا تمامًا. علاوةً على ذلك، ينبغي أن يكون الناسُ أحرارًا في تبعيَّة المسيح ولا تمنعهم أيَّة كنيسةٍ أو جهة رسميَّة من ذلك؛ فالخلاص في المسيح يتحقَّق باستجابةٍ إيمانيَّةٍ لعطيَّة النعمة الإلهيَّة بواسطة الابن يسوع المسيح (أفسس 2: 8-10). ولا ينبغي بتاتًا تقييد حرِّيَّة إعلان الخبر السارِّ وسماعه والتجاوُب معه.
  • حرِّيَّة قراءة الكتاب المقدَّس وتفسيره. الكتاب المقدَّس هو السُّلطة المعتمَدة للإيمان والممارسات، ويؤكِّدُ المعمدانيُّون أنَّ كلَّ إنسانٍ يتجاوَب مع الإيمان بالمسيح يصيرُ كاهنًا مؤمنًا يتمتَّع بقدرةٍ منحها له الله لفَهم الكتاب المقدَّس وتطبيقه بإرشادٍ من الرُّوح القُدُس، فعلى مسؤولي الكنيسة أو الجهات الرسميَّة عدم عرقلة دراسة الكتاب المقدَّس أو إملاء ما يُعلِّمه، ويجب أن تكونَ لكلِّ إنسانٍ حرِّيَّة فعل ذلك بنفسه.
  • حرِّيَّة المعموديَّة بالماء. يؤكِّد المعمدانيُّون أنَّ المعموديَّة يجب ألَّا تُقام سوى لمن يلتزم طَوعًا الإيمانَ بالمسيح (رومية 6: 3-5؛ كولوسِّي 2: 12)، ويجب ألَّا تُفرَض المعموديَّة على أيِّ شخصٍ بتاتًا، ولا ينبغي لأحَدٍ أن يمنعَ أيَّ شخصٍ من اختياره أن يعتمدَ بالماء.
  • حرِّيَّة اختيار الكنيسة ودعمها. يُعلِّمنا الكتاب المقدَّس أنَّ الكنيسة هي الشركة الطوعيَّة للمؤمنين بالمسيح المعمَّدين الذين يدعمون خدمتها طَوعًا (أعمال 2: 27؛ 2كورنثوس 9: 7). لذلك، يُعارِض المعمدانيُّون بشدَّةٍ مفهومَ الكنيسة التي تدعمها الأنظمة السياسيَّة، أو استخدام أموال الضَّرائب في تمويل خدمة الكنيسة.
  • حرِّيَّة إدارة الكنيسة. الكهنة المؤمنون قادرون بالمسيح، بواسطة الروح القدس، على إدارة أنفسهم في كنيسةٍ تتمتَّع بالاستقلال الذاتيّ (أعمال 6: 1-6؛ 13: 1-3؛ 1كورنثوس 5: 1-13). لذا، يجب أن يكونوا أحرارًا لفعل هذا بعيدًا عن أيِّ جهودٍ تُبذَل للسَّيطرة من الكنيسة أو الجهات الرسميَّة ما دامَتِ الصحَّة والسلامة العامَّة ليسَتا في خطر.
  • حرِّيَّة الشهادة والخدمة. يؤمنُ المعمدانيُّون بأنَّ الكهنة المؤمنين عليهم مسؤوليَّة مشاركة الإنجيل مع الآخرين وخدمتهم بِاسْم المسيح، لذلك يصرُّ المعمدانيُّون على أنَّ الناسَ يجب أن يكونوا أحرارًا في الكرازة والخدمة دون تدخُّلٍ من أيَّة سُلطةٍ بشريَّة (أعمال 5: 29-42).

تطبيق الحرِّيَّة الدينيَّة

دفعَ المعمدانيُّون في الماضي ثمنًا باهظًا للمساعدة في توفير الحرِّيَّة الدينيَّة للجميع، فما الذي يجب أن يفعلَه المعمدانيُّون اليوم بهذا التراث الثمين؟

  • الحفاظ على الحرِّيَّة الدينيَّة. من المؤكّد أنَّ اليقظة المستمرَّة هي ثمن الحرِّيَّة، بما في ذلك الحرِّيَّة الدينيَّة؛ لأنَّ فقدانَ ما ربحَتْه أجيالٌ عدَّة بالتضحيات لن يحتاجَ سوى إلى جيلٍ يُظهِر الإهمال أو ربَّما جيلَين.
  • مواصلة الجهود من أجل الحرِّيَّة الدينيَّة. ما زال كثيرون حول العالم يعيشون حيث لا توجد حرِّيَّة دينيَّة، ولا يزال الاضطهاد بواسطة السُّلطات الدينيَّة والجهات الرسميَّة حاضرًا.
  • التصرُّف بمسؤوليَّة مع الحرِّيَّة الدينيَّة. عليك أن تُمارس الحرِّيَّة بالدراسة المتأنِّية للكتاب المقدَّس، وتكون عضوًا داعمًا في الكنيسة، وتُشارك الإنجيل مع الآخرين، وتعيش وَفقًا لتعاليم يسوع المسيح.
  • التمسُّك بالفصل بين الكنيسة والدَّولة. النتيجة المنطقيَّة للحرِّيَّة الدينيَّة هي الفصل الوُدِّيُّ بين المنظَّمات الدينيَّة والسُّلطة الحكوميَّة، فقد دافعَ المعمدانيُّون عن هذا المفهوم، ويجب أن يستمرُّوا في القيام بذلك.
  • استخدام الحرِّيَّة لمنفعة الآخرين. كَتَبَ بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطِيَّة: ‘‘فإنَّكُمْ إنَّما دُعيتُمْ للحرِّيَّة أيُّها الإخوَةُ. غَيرَ أنَّهُ لا تُصَيِّروا الحرِّيَّة فُرصَةً للجَسَدِ، بل بالمحبَّةِ اخدِموا بَعضُكُمْ بَعضًا’’ (غلاطِيَّة 5: 13). ومن ثَمَّ علينا ألَّا نستخدمَ حُرِّيَّتنا بأنانيَّة، بل لنخدمَ احتياجات الناس حول العالم.

الخلاصة

واجَهَ المعمدانيُّون خطرًا عظيمًا، وبذلوا تضحِيات ضخمةً للمساعدة في توفير الحرِّيَّة الدينيَّة لجموعٍ من البشر في هذا الجيل. والآن يعتمد الأمرُ على المعمدانيِّين اليوم للمساعدة في الحفاظ على هذا الإرث الثمين للأجيال المقبِلة.

‘‘يستحيلُ أن تُعرِّف المعمدانيِّين دون ذِكْر تفانيهم في مبدأ الحرِّيَّة الدينيَّة الكاملة’’.
وليم إستيب
اقتباسٌ من كتاب: ‘‘لماذا المعمدانيُّون؟’’