7. المعمدانيُّون: أَكهنوت المؤمن أم كهنوت المؤمنين؟

‘‘وأمَّا أنتُمْ فجِنسٌ مختارٌ، وكهَنوتٌ ملوكيّ، أُمَّةٌ مقَدَّسَة، شَعبُ اقتِناء، لكَيْ تُخبِروا بفَضائلِ الذي دَعاكُمْ مِنَ الظُّلمَةِ إلَى نورِهِ العَجيب’’.
(1بطرس 2: 9)

‘‘كلُّ مؤمنٍ هو كاهن أمام الله، وفي رعاية رفقائه المؤمنين والأشخاص الذين ماتَ المسيح من أجلهم في العالم’’.
اقتباسٌ من كتاب ‘‘نحن المعمدانيِّين…’’، تحرير جيمس ليو غاريت جونيور

يبدو غريبًا لبعض الأشخاص قَول إنَّ المعمدانيَّ كاهن، لكنَّ هذه حقيقة؛ فكلُّ مؤمنٍ معمدانيٍّ كاهن. في الواقع، يصرُّ المعمدانيّون على أنَّ كلَّ الذين يؤمنون بيسوع المسيح ربًّا ومخلِّصًا هم كهنةٌ مؤمنون، ويُعدُّ مفهوم كهنوت المؤمنين أساسيًّا لدى المعمدانيِّين، كما هي الحال مع بعض المعتقدات المهمَّة الأُخرى للمعمدانيِّين، فإنَّهم يقدِّمون تفسيراتٍ متنوِّعةً للمقصود بهذا المفهوم، لكنَّنا جميعًا نقدِّر حقَّ الكتاب المقدَّس بشأن كهنوت المؤمنين.

ماذا يعني أن تكون كاهنًا؟

عندما تكون كاهنًا، فإنَّ هذا يتضمَّن أمرَين: الفرصة والمسؤوليَّة. في العهد القديم، احتلَّ الكاهنُ مكانةً خاصَّةً في عبادة الله، وكان الكهنة مسؤولين عن جوانب معيَّنة من العبادة مثل الذبائح الحيوانيَّة، وقدَّموا العبادة لله بصفتهم وسطاءَ بين الناس والله. لكنْ كان رئيسُ الكهنة هو الوحيدَ المسموحَ له بأن يدخلُ قدسَ الأقداس، وكان هذا المكان المقدَّس منفصلًا عن بقيَّة أجزاء الهيكل والكهنة والمصلِّين بحجاب (ستارة ضخمة).

مع تجسُّد يسوعَ وحياته وموته وقيامته، تغيَّر كلُّ ذلك، ولم تعُدِ الذبائحُ الحيوانيَّة ملائمة؛ فالمسيحُ، حَمَلُ الله، قدَّمَ نفسَه ذبيحةً عن الخطيَّة، وحدثَ ذلك مرَّةً واحدةً فيها كلُّ الكفاية.

وفي حادثة صَلْب يسوع، يقول الكتاب المقدَّس: ‘‘إذا حِجابُ الهَيكلِ قد انشَقَّ إلَى اثنَين، مِنْ فوقُ إلَى أسفَل’’ (متَّى 27: 51)، مشيرًا إلى أنَّ الربَّ يسوع، رئيسَ الكهنة العظيم، توسَّطَ بين الله والجنس البشريّ، ولا حاجة بعد إلى تنوُّع كهنة العهد القديم. في الواقع، جميع مَن يؤمنون بالربِّ يسوع يصبحون كهنةً، ولهم الحقُّ في الوصول المباشر إلى الله، ولم تعُدْ هناك حاجةٌ إلى وسطاءَ منَ البشر؛ إذ صارَ في وُسعنا أن نذهب مباشرةً إلى الله بالصَّلاة والاعتراف والتسبيح والعبادة. ويا لها من فرصةٍ عظيمة!

لكنْ عندما تكون كاهنًا، يحمل ذلك في طيَّاته مسؤوليَّة. في العهد القديم، كان الكاهنُ يمثِّلُ الله أمام الشعب. واليوم على الكاهن المؤمن مسؤوليَّةُ أن يُشارك معرفتَه عن الله مع الآخرين بالقَول والفعل؛ فالكاهن يتحمَّل مسؤوليَّةَ أن يشهدَ عن محبَّة الله الظاهرة في يسوع المسيح، ويُظهِرَ محبَّةَ الله بخدمةِ آخرين. وينفِّذُ المعمدانيُّون هذه المسؤوليَّة بوسائلَ عدَّة، كالكرازة والإرساليَّات والخدمة والعمل الاجتماعيِّ لفائدة الآخرين ومنفعتهم.

من أين يأتي مفهوم كهنوت المؤمنين؟

كثيرًا ما يرتبط اسم مارتن لوثر، أحد قادة الإصلاح البروتستانتيّ، بمفهوم كهنوت المؤمنين؛ فقد تحدَّى لوثر تشديدَ الكنيسة الكاثوليكيَّة على الدَّور الخاصِّ الذي يؤدِّيه الكهنة الكاثوليك، وأصرَّ على أنَّ كلَّ مؤمنٍ كاهنٌ، وله حقُّ الدخول إلى الله والتواصُل المباشر معه، ولم يُطالِبْ بإلغاء دور الرُّعاة، بل أشارَ إلى أنَّ كلَّ المؤمنين، وليس الرعاة وحدهم، لهم وظيفةٌ كهنوتيَّة. حتَّى قبل ظهور لوثر فجأةً في مشهد الكنيسة الأوروبيَّة، أكَّدتْ مجموعاتٌ مسيحيَّةٌ مختلفة مسألةَ كهنوت المؤمنين.

غير أنَّ مفهومَ كهنوت المؤمنين عند المعمدانيِّين لا ينحدرُ من تعاليم مارتن لوثر، أو أيَّة مجموعة مسيحيَّة أُخرى، بل مِن العهد الجديد. وعلى أساسِ نصوصٍ عدَّة من العهد الجديد، يُصرُّ المعمدانيُّون على أنَّ كلَّ مَن يؤمنُ بالربِّ يسوعَ المسيح، له حقُّ الدُّخول المباشر إلى الله والتواصُل معه، وكلُّ مؤمنٍ مسؤول مباشرةً أمام الله وعليه أن يُشارك محبَّة الله.

كهنوت المؤمن

من الواضح أنَّ كهنوتَ كلِّ مؤمنٍ يرتبطُ ارتباطًا وثيقًا بمفهومٍ آخرَ في الفكر المعمدانيِّ هو المقدرة الممنوحة للنَّفْس؛ فكلُّ مؤمنٍ يتمتَّع بقدرةٍ منحها الله له لمعرفة مشيئة الله واتِّباعها، وقرار تبعيَّة المسيح ربًّا ومخلِّصًا قرارٌ فرديّ، ولا يمكن أن يتَّخذ أحَدٌ هذا القرارَ نيابةً عن آخر. وعندما تكونُ كاهنًا مؤمنًا، فهذه عطِيَّةٌ من الله تأتي نتيجةَ الخلاص، وليس إنجازًا بشريًّا.

كلُّ كاهنٍ مؤمنٍ مسؤولٌ عن أفعاله، ويُمكن أن يذهبَ المؤمنون الأفراد مباشرةً إلى الله دون مساعدةِ أيِّ وسيط، ويُمكن أن يقرأ المؤمنون الأفراد الكتابَ المقدَّسَ ويفسِّروه بأنفسِهم دون أن يُملي عليهم المسؤولون الدينيُّون ما ينبغي أن يؤمنوا به. لاحِظْ أنَّ جميعَ الكهنة المؤمنين متساوون في المسيح (غلاطِيَّة 3: 26-28)، ويسوع المسيح هو رئيس الكهنة الواحد الوحيد (عبرانيِّين 7: 23-8: 13).

يتحمَّل كلُّ كاهنٍ مؤمنٍ مسؤوليَّةَ التزام حياتِه مع المسيح، ومشاركة رسالته قَولًا وفعلًا. ويوضحُ الرسولُ بطرس ذلك قائلًا: ‘‘لكَيْ تُخبِروا بفَضائلِ الذي دَعاكُمْ مِنَ الظُّلمَةِ إلَى نورِه العَجيب’’ (1بطرس 2: 9)، لذا فليس للكنيسة كاهنٌ واحد، بل لها كهنةٌ كثيرون يوصِلونَ محبَّةَ الله وغفرانه ويُظهرون الاهتمام والرحمة بعضهم لبعض.

كهنوت المؤمنين

يتحدَّث العهد الجديد أيضًا بشأن كهنوت المؤمنين؛ فالكهنة المؤمنون جزءٌ من جسد المسيح، ويؤلِّفون مجتمعَ المؤمنين. ومع أنَّ كلَّ كاهنٍ مؤمنٍ مسؤولٌ مسؤوليَّةً فرديَّةً أمام الله، فكلُّ الكهنة المؤمنين مرتبطون بعضهم ببعض بصفتهم إخوةً وأخواتٍ في المسيح. ويُبرزُ هذا الجانبُ الجماعيُّ لكهنوتِ المؤمنين حقيقةَ أنَّ الإيمانَ يتضمَّن الشركة مع المؤمنين الآخرين، وتعمل هذه الشَّركة على تشجيع المؤمن ومساعدته في النموِّ المسيحيِّ والخدمة. فيا له مِن أمرٍ محزنٍ وصعبٍ أن تعيشَ الحياةَ المسيحيَّةَ بمعزلٍ عن المؤمنين الآخرين!

علاوةً على ذلك، تُساعد أيضًا شركةُ الكهنة المؤمنين في تفسير الكتاب المقدَّس وفَهمِ مشيئة الله. ومع أنَّ كلَّ كاهنٍ مؤمنٍ يُمكن أن يقرأ الكتاب المقدَّس، وينبغي أن يُفسِّره بنفسه، فإنَّ المؤمنَ الحكيمَ يسعى إلى الحصول على البصيرة والأفكار والفَهم من الكهنة المؤمنين الآخرين. ويتلقَّى المؤمنون المساعدة في فَهم الكتاب المقدَّس ومشيئة الله بالبحث في تعاليم الكهنة المؤمنين في الماضي، وطلب الحكمة من الموجودين في الحاضر.

يُركِّز النموذج المعمدانيُّ للكنيسة على مفهوم كهنوت المؤمنين، فالكنيسةُ تتألَّفُ من المؤمنين الذين مارَسوا القدرةَ التي وهبهم إيَّاها الله بالإيمان بيسوع المسيح مخلِّصًا وربًّا، والارتباط طوعًا في إطارِ شركةٍ خاصَّةٍ بالمؤمنين، لذا لا أحد في سلطةٍ على جميع المؤمنين. ومن ثَمَّ تتَّخذُ جماعةُ الكهنة قراراتٍ تسعى إلى معرفة مشيئة الربِّ يسوع، رأس الكنيسة ورئيس الكهنة العظيم، ويفعلون ذلك بالصَّلاة ودراسة الكتاب المقدَّس والتأمُّل والمناقشة واتِّخاذ القرار.

الخلاصة

أهو كهنوت المؤمن أم كهنوت المؤمنين؟ ليس أحَدَهما بل كلاهما. يوصلُ مفهوم ‘‘كهنوت المؤمن’’ تركيزَ الكتاب المقدَّس على الفرد والمقدرة الممنوحة للنَّفْس، ويوصل مفهوم ‘‘كهنوت المؤمنين’’ تركيزَ الكتاب المقدَّس على جماعة المؤمنين والشَّرِكة. على مرِّ التاريخ، في جميع جوانب الحياة، حدثَ توتُّر ما بين الفرد والمجموعة، ولم ينجُ المعمدانيُّون من هذا النوع منَ التوتُّر؛ فنحن نفعل حسنًا عندما نرفضُ إعطاء أولويَّة لأحدِهما على الآخر، لكنَّ علينا أن نحافظَ على التوازن ما بينهما.