23. المعمدانيُّون وتطبيق الإنجيل

‘‘ماذا يَطلُبُهُ مِنكَ الرَّبُّ، إلَّا أنْ تصنَعَ الحَقَّ وتُحِبَّ الرَّحمَة، وتَسلُكَ متَواضِعًا مع إلهِكَ’’.
(ميخا 6: 8)

يُعلنُ المعمدانيُّون أنَّ المؤمنينَ يتحمَّلون مسؤوليَّةَ مشاركة رسالة الإنجيل وتطبيقها في الحياة. كتبَ المبشِّر المعمدانيُّ بيلي غراهام قائلًا: ‘‘إنَّ علينا، نحن المؤمنين، مسؤوليَّتَين: الأولى هي إعلان إنجيل يسوع المسيح بصفته الإجابة الوحيدة لتلبية الاحتياجات العميقة للإنسان، والأُخرى هي تطبيق مبادئ المسيحيَّة بأفضل ما يُمكن على الأحوال الاجتماعيَّة من حولنا’’.

ويقتَضي تطبيق المبادئ المسيحيَّة على الأوضاع الاجتماعيَّة كلًّا من الخدمةَ والعمل الاجتماعيِّ المختلفَين رغم ارتباطهما، وتتضمَّنُ الخدمةُ بذْلَ جهودٍ لشفاء الإيذاءات الروحيَّة والجسديَّة والعقليَّة والعاطفيَّة التي يتعرَّض لها الناس، في حين يشمل العمل الاجتماعيُّ بَذْلَ جهودٍ لتغيير الأوضاع التي تتسبَّب في هذه الإيذاءات. وتركِّزُ الخدمة على التصحيح، والعمل الاجتماعيُّ على الوقاية. مثلًا، إطعام الجياع هو صورةٌ من صور الخدمة، والعمل من أجل القضاء على سبب الجوع هو نوعٌ من أنواع العمل الاجتماعيّ.

أُسسُ تطبيق الإنجيل

تستندُ جهودُ المعمدانيِّين لتصحيح الأخطاء في عالمنا بقوَّةٍ إلى المعتقدات المعمدانيَّة الأساسيَّة مثل ربوبيَّة المسيح وسُلطة الكتاب المقدَّس.

تدعو ربوبيَّة المسيح إلى بَذْل الجهود لتحقيق نظامٍ اجتماعيٍّ يتَّسم بالمحبَّة والعدالة. يسوع هو ربُّ الجميع (يوحنَّا 1: 3؛ فيلبِّي 2: 9-11)، وأشار إلى أنَّنا يجب أن نعترفَ بأنَّه ربّ (يوحنَّا 13: 13) وأن نتصرَّفَ أيضًا وَفقًا لربوبيَّته (لوقا 6: 46). يُريدنا ربُّ كلِّ الخليقة أن نُطبِّقَ ما يُعلِّمنا إيَّاه، ونتَّبعَ مثاله وقدوته (متَّى 7: 21-27).

علَّم يسوع أنَّ الوصيَّة العُظمى هي أن تحبَّ الله والآخرين. ويُقدِّمُ هذا دليلًا إرشاديًّا لطريقة عَيْش الحياة المسيحيَّة وتطبيق الإنجيل على كلِّ جوانب الحياة (متَّى 22: 36-40). وأعلنَ يسوعُ خدمتَه بعباراتٍ تُشير إلى اهتمامِه بكلِّ جوانب الحياة (لوقا 4: 18-19). وتتناوَلُ تعاليمُ الربِّ يسوع مسائلَ محدَّدة تتعلَّقُ بمؤسَّسات المجتمع مثل الأسرة والحكومة (متَّى 19: 3-12، 22: 15-22)، وقدَّمَ الربُّ يسوع نموذجًا للخدمة المضحِّية وأوصى تلاميذَه أن يحملوا الصليب ويتبعوه (متَّى 16: 24).

يُحدِّدُ الكتاب المقدَّس معايير الله لجميع جوانب الحياة البشريَّة، سواء للأفراد أم العائلات أم الكنائس أم الاقتصاديَّات أم الحكومات، ويدعو الناس لأنْ يسعَوا إلى التزام هذه المعايير وتلبِيَتِها.

يُسجِّلُ العهد القديم مشيئةَ الله لمؤسَّسات المجتمع، فقد أدان الأنبياء الجشعَ والظَّلم لأنَّهما يُخالفان مشيئة الله، وكشفوا عن استياء الله من أولئك الذين أفسدوا المجتمع وظلموا الفقراء، وشنُّوا حروبًا ظالمة، وتجاهَلوا مِحَنَ الضُّعفاء. ونادى هؤلاء الأنبياء باجتثاث الظُّلم وإقامة الحقّ (إرميا 5: 25-29؛ هوشع 6: 6؛ عاموس 5: 21؛ ميخا 6: 6-8)، وقدَّموا نموذجًا لكلٍّ من ‘‘نبوَّة المؤمن’’ و‘‘كهنوت المؤمن‘‘.

يُسجِّل العهد الجديد أنَّ المؤمنين في الكنائس الأولى أكَّدوا مشيئة الله الذي يرغب في وُجود نظامٍ اجتماعيٍّ عادلٍ وإنسانيٍّ وأخلاقيّ. في عالمٍ كثيرًا ما يكون المسؤولون الحكوميُّون فاسدين، حدَّدَ قادة الكنيسة المعيارَ الإلهيَّ للمسؤولين حتَّى يعملوا لمصلحة المواطن (رومية 13: 1-7). وفي وقتٍ كان يُعامل فيه الكثير من النساء والعبيد على أنَّهم أدنياء، أعلنَ القادة المسيحيُّون المساواة ما بين الجميع في المسيح (غلاطِيَّة 3: 28)، وأدان قادةُ الكنيسة النمطَ المعتادَ للمجتمع الذي يُقدِّم ما يُرضي الأثرياء ويتجاهَلُ الفقراء.

أساليبُ تطبيق الإنجيل

استخدمَ المعمدانيُّون مجموعةً من الأساليب في تطبيق الإنجيل على كلِّ جوانب الحياة. وكانت هذه الأساليب مصمَّمةً لتقوية المؤسَّسات الأساسيَّة للنظام الاجتماعيِّ كالحياة الأُسريَّة والأعمال التجاريَّة والحكومة، ويتناوَلُ بعضها الآخر المظالم الموجودة في المجتمع كالظُّلم والفساد والفجور.

يعزِّزُ المعمدانيُّون النظامَ الاجتماعيَّ بالعَيش وَفقًا لتعاليم الكتاب المقدَّس في الحياة اليوميَّة المتعلِّقة بالأُسرة والعمل والسياسة والكنيسة والترفيه والاشتراك في جهود تصحيح الأوضاع الضارَّة في هذه المجالات. وتسعى الكنائس والمؤسَّسات والطوائف المعمدانيَّة بالجهود المنظَّمة إلى إقامة نظامٍ اجتماعيٍّ أكثر عدلًا وإنسانيَّة.

يعتقدُ المعمدانيُّون أنَّ الكرازة الحقيقيَّة مع التلمذة تستطيعان معًا إحداثَ تغييرٍ اجتماعيٍّ إيجابيّ. والعمل الاجتماعيُّ نفسُه ليس كرازةً، كما أنَّ الكرازة في حدِّ ذاتها ليست عملًا اجتماعيًّا. لكنْ يمكن أن تخلقَ الكرازة، التي تُثمِر عن إيمان، في الناس رغبة للمساعدة في تحسين أحوال حياة الآخرين، ويمكن أن تثمرَ الكرازةُ الحقيقيَّةُ مع التلمذة عن تغييرٍ في الحياة يُساعد على تغيير العالم.

يكرزُ المعمدانيُّون ويعلِّمون ويكتبون لتحديد معايير الكتاب المقدَّس للنظام الاجتماعيّ، ولتحدِّي الممارَسات الخاطئة، وتشجيع الأفراد والمنظَّمات على الاشتراك في العمل الاجتماعيِّ الإيجابيّ. ويُعلنُ الوعَّاظُ المعمدانيُّون تعاليمَ الكتاب المقدَّس عن تغيير أوضاع العالم، وكتبَ المؤلِّفون المعمدانيُّون أيضًا مجلَّداتٍ عن الحاجة إلى تطبيق الإنجيل على كلِّ جوانب الحياة.

استخدمَ المعمدانيُّون عمليَّات المقاطَعة والمظاهَرات لإحداث تغيير اجتماعيّ؛ فقد كانوا يطالِبون بمناصبَ منتخَبة، ويُشجِّعون الناس على التصويت في الانتخابات، وحاوَلوا التأثير في المسؤولين الحكوميِّين، والضغط عليهم للتعامل على نحوٍ بنَّاء مع المشكلات التي يُعانيها المجتمع مثل التلوُّث والموادِّ الإباحيَّة والفقر والجوع والعنصريَّة، وانضمُّوا إلى طوائفَ أُخرى لتكوين منظَّمات للتعامل مع مشكلاتٍ اجتماعيَّة محدَّدة كالإساءة إلى الأطفال والاعتداء عليهم، وإهمال قدسيَّة الحياة والسُّكْر وانتهاكات الحرِّيَّة الدينيَّة.

انخرطَ المعمدانيُّون أحيانًا في نزاعٍ لتَحقيق مجتمعٍ أكثرَ عَدْلًا مثلَ ما حدثَ في أثناء الثورة الأميركيَّة، وكانت الجهود المعمدانيَّة عادةً سلميَّة، كأعمال العصيان المدنيِّ في أثناء النضال من أجل الحرِّيَّة الدينيَّة وحملات العدالة العِرقيَّة.

تحدِّياتُ تُواجِهُ تطبيق الإنجيل

تواجِهُ الجهودُ المبذولة لتطبيق الإنجيل على النظام الاجتماعيِّ تحدِّيات عدَّة؛ فعندما يُحاولُ المؤمنون والكنائس والمنظَّمات المعمدانيَّة اتِّباع وصيَّة الربِّ يسوع بأن يكونوا ملحًا ونورًا (متَّى 5: 13-14)، فإنَّهم يتعرَّضون للرَّفض والعِداء، وكثيرًا ما يحتاج تطبيق الإنجيل إلى شجاعةٍ استثنائيَّة.

كثيرًا ما يُواجِه تطبيقُ الإنجيل أيضًا صعوبةً بسبب عدم الاتِّفاق بشأن المشكلات التي يجب مواجهتها؛ فقد ينشأ مزيدٌ من الخلاف حول الوسائل المستخدَمة في التعامُل مع مشكلة معيَّنة. ويُشكِّك بعضُ الأشخاص في صحَّة الجهود المبذولة لتصحيح سِقام المجتمع، وقد يَعوق مثل هذا التشكيك تطبيقَ الإنجيل على كلِّ جوانب الحياة.

يؤدِّي الفتور وعدم المبالاة أيضًا دَورًا مهمًّا في إحباط الجهود الفعَّالة لتطبيق الإنجيل. والمؤسف أنَّ كثيرين يختارون أن يتركوا لآخَرين المهمَّات الصعبة التي تتمثَّل في تحقيق العدل والاستقامة.

يسعى المعمدانيُّون إلى التغلُّب على هذه التحدِّيات بأساليبَ مختلفة، ويحثُّون الناس على طَلَبِ الإرشاد والقوَّة من الروح القدس بخصوص المشكلات الاجتماعيَّة التي يجب معالجتها، ويُشجِّعون الكنائس أن تُعلِّم ما يقوله الكتاب المقدَّس عن تطبيق الإنجيل. علاوةً على ذلك، يؤلِّفُ المعمدانيُّون منظَّماتٍ تابعةً للطائفة بغيةَ التعامُل مع المشكلات الاجتماعيَّة، ويتَعاوَنون مع آخرين من طوائفَ أُخرى في مواجَهةِ شرورِ المجتمع ومحاربتها.

الخلاصة

يسعى المؤمنون والكنائس والمنظَّمات المعمدانيَّة إلى تطبيق إنجيل يسوع المسيح على كلِّ جوانب الحياة. ويُظهِرُ المعمدانيُّون نشاطًا كبيرًا في الكرازة والخدمة، لكنَّهم يشاركون أيضًا في أعمالٍ محدَّدةٍ تُحقِّق نظامًا اجتماعيًّا أكثر عدالة وإنسانيَّة، ويدفعون ثمنًا لذلك على رجاء أن يكونَ العالم مكانًا أفضل؛ لأنَّهم يؤمنون بأنَّ هذه هي تعاليم المسيح، ولأنَّ طبيعة المسيح فيهم هي التي تفعل ذلك (غلاطِيَّة 2: 20).

‘‘من المؤكَّد أنَّنا، نحن المواطنين المؤمنين، لا يُمكن أن نرضى عن نظامِنا الاجتماعيِّ حتَّى تُطبَّق مبادئ المسيح على جميع البشر’’.
بيلي غراهام
اقتباسٌ من كتاب ‘‘العالم يحترق’’