20. المعمدانيُّون والكرازة

‘‘إذًا الإيمانُ بالخَبَر، والخَبَرُ بكلِمَةِ الله’’.
(رومية 10: 17) 

يلتزمُ المعمدانيُّون تُجاهَ الكرازة ومشاركة الإنجيل عن يسوع المسيح حتَّى يؤمن الآخرون به ربًّا ومخلِّصًا. والالتزام تُجاهَ الكرازة بوصفها أولويَّةً هو أمرٌ واضحٌ عمليًّا في كلِّ جوانب الحياة المعمدانيَّة.

أُسس الكرازة

لا تحظى الكرازة باهتمامٍ ثانويّ، بل هي جزءٌ لا يتجزَّأ من هُوِيَّة المعمدانيِّين. ويستندُ تشديدُ المعمدانيِّين على الكرازة إلى المعتقدات والممارَسات التي تؤلِّفُ السِّمات المعمدانيَّة المميَّزة؛ فمثلًا الإيمانُ بربوبيَّة المسيح قناعةٌ معمدانيَّةٌ راسخة، وعلى كلِّ الذين تبعوا يسوع أن يفعلوا ما أوصاهم به لأنَّه الربُّ والسيِّد. أوصانا يسوع قائلًا: ‘‘فاذهَبوا وتَلمِذوا جميعَ الأُمَمِ وعَمِّدوهُم باسمِ الآبِ والابنِ والرُّوحِ القُدُس’’ (متَّى 28: 19)، وأعلن أيضًا: ‘‘وتَكونونَ لي شُهودًا’’ (أعمال 1: 8). تدعو الوصيَّة العظمى التي قالها يسوع في متَّى 22: 36-40 إلى مشاركة الخبر السارِّ عنه، وتتضمَّن محبَّةُ القريب بكلِّ تأكيدٍ أن نخبرَه بشأن الخلاصِ بيسوع.

يرى المعمدانيُّون أنَّ الكتابَ المقدَّسَ هو المصدرُ الموثوق به في التعليم عن العقيدة والحياة المسيحيَّة. ويُعلِّمنا الكتاب المقدس أنَّ الخلاصَ من سُلطة الخطيَّة وعقوبتها والهروب من الجحيم ودخول السماء لا يأتي سوى بالإيمان بعطيَّة النعمة الإلهيَّة بواسطة الابن الربِّ يسوعَ المسيح (يوحنَّا 3: 16-18؛ أفسس 2: 8-10). يسجِّلُ الكتاب المقدَّس كلمات يسوع عندما قال: ‘‘أنا هو الطَّريقُ والحَقُّ والحياةُ. ليس أحَدٌ يأتي إلَى الآبِ إلَّا بي’’ (يوحنَّا 14: 6).

لا يأتي الخلاص بالأعمال الصَّالحة أو ممارسة الأسرار المقدَّسة أو المعموديَّة أو بعضويَّة الكنيسة بل باستجابة الإيمان وحدَها لعطيَّة النعمة الإلهيَّة التي تقدِّمُ الخلاصَ بيسوع المسيح. لذا يؤكِّد الكتاب المقدَّس أهمِّيَّة مشاركة الإنجيل حتَّى يعرفَ الناسُ يسوعَ ويؤمنوا به وينالوا الخلاص (رومية 10: 13-17). يتضمَّن الخلاصُ علاقةً شخصيَّةً بيسوع المسيح. ويؤمنُ المعمدانيُّون بأنَّ الكتاب المقدَّس يُعلِّم أنَّ الخلاصَ يأتي عن اختبار، أي أنَّه ناتجٌ عن اختبارٍ شخصيٍّ عندما يقدِّم الشخص توبةً عن الخطيّة ويؤمن بالمسيح. وقد قارَنَ الربُّ يسوعُ هذا الاختبار بالولادة الثانية (يوحنَّا 3: 7). والاختبار ليس عاطفيًّا بالضَّرورة، بل شخصيّ. ولا أحدَ يمكنُ أن يفعلَ ذلك بالنيابة عن شخصٍ آخر.

يعلِّمُنا الكتاب المقدَّس أنَّ رسالة الإنجيل للجميع، وأنَّ كلَّ مَن يؤمنُ بالربِّ يسوعَ المسيح ربًّا ومخلِّصًا ينال الخلاص (يوحنَّا 3: 16؛ رومية 10: 13)، لذا على المؤمنين أن يحثُّوا الناس على الإيمان بالمسيح مخلِّصًا وربًّا وأن يتَّبعوه.

وسائل الكرازة

بسبب أهمِّيَّة الكرازة، يستعينُ المعمدانيُّون بجميع الوسائل المشروعة لدعوة الناس إلى الإيمان بيسوع، لكنَّ الإكراهَ وسيلةٌ غيرُ مشروعةٍ لجَعْل الشخص يتَّبع الربَّ يسوع. يؤكِّدُ الكتاب المقدَّس أنَّ الربَّ يسوعَ نفسَه لم يُجبِر أحدًا على اتِّباعه (متَّى 19: 16-22). وحتَّى نكونَ صادقين، يجب أن تكونَ الاستجابةُ لرسالة الإنجيل اختياريَّة وطوعيَّة، لذا يصرُّ المعمدانيُّون على أنَّ مشاركةَ رسالة الإنجيل والاستجابة لها يجب أن تكونَ اختياريَّةً وطوعيَّة.

يؤمنُ المعمدانيُّون بأنَّ الكرازة هي فرصةُ كلِّ مؤمنٍ ومسؤوليَّته. ورغم أنَّ الله أعطى بعضَ الأشخاص موهبةً ليكونوا مبشِّرين (أفسس 4: 11)، فإنَّ على كلِّ أتباع المسيح أن يشاركوا رسالةَ الإنجيل. أحدُ جوانب التعاليم التي يقدِّمها الكتاب المقدَّس عن كهنوت جميع المؤمنين هو أنَّ كلَّ مؤمنٍ كاهنٍ يجب أن يخدمَ الآخرين بمشاركة رسالة الإنجيل معهم بكلِّ محبَّة. وعلى الجميع أن يكرزوا، ولا يقتصر الأمر فقط على الرُّعاة والمرسَلين والمبشِّرين.

تُؤدِّي مشاركة الفرد برسالة الإنجيل مع الآخرين دورًا مهمًّا في الكرازة، وتحثُّ الكنيسةُ المعمدانيِّين على مشاركة اختبارهم الشخصيِّ بروح الصَّلاة عن إيمانهم بالمسيح والتزامهم تُجاهَ العلاقة به، أو بعبارةٍ أُخرى، تدعوهم الكنيسة لأنْ يكونوا شهودًا (أعمال 1: 6-8). تقدِّمُ الكنائسُ والجمعيَّاتُ والطوائفُ تدريبًا وتشجيعًا للأفراد ليكونوا شهودًا للمسيح.

يتضمَّنُ جزءٌ من هذه المشاركة عَيْشَ حياةٍ مسيحيَّةٍ إيجابيَّةٍ تجذب الآخرين إلى رسالة الإنجيل. لكنْ يُدرك المعمدانيُّون أنَّ أسلوبَ الحياة وحدَه لا يُمكن أن يوصلَ بما يكفي الحقَّ الأساسيَّ لرسالة الإنجيل: أنَّ يسوعَ بلا خطيَّة، وقد ماتَ وصار ذبيحةً لخطايانا، لكنَّه قامَ من بين الأموات، ويجب أن نتجاوَبَ بإيمانٍ معَه حتَّى ننالَ الخلاص. من المؤكَّد أنَّ الكلمات أيضًا ضروريَّة (رومية 10: 8-17)، وتشملُ الكرازة مشاركةَ رسالةِ الإنجيل بالقول والفعل.

الوعظ بالإنجيل (2تيموثاوس 4: 2) طريقةٌ أُخرى يستعينُ بها المعمدانيُّون في الكرازة. في الخدمات المختلفة، عادةً ما يحمل الوعظ رسالةَ تأكيدٍ كرازيَّة حتَّى عندما تتناولُ العظةُ في الأساس موضوعاتٍ أُخرى. يعظُ المعمدانيُّون بخدماتٍ كرازيَّةٍ خاصَّة خارج الكنيسة، وفي الهواء الطَّلق، وفي المخيَّمات والمؤتمرات الصيفيَّة، لحثِّ الآخرين على الإيمان بالمسيح ربًّا ومخلِّصًا.

ويحمل التعليم المعمدانيُّ أيضًا (متَّى 28: 20) رسالةً كرازيَّة؛ فمثلًا، يرى المعمدانيُّون أنَّ لتعليمِ مختلَف الفئات العمريَّة هدفًا مزدوجًا هو دراسة الكتاب المقدَّس والكرازة. كما أنَّ محاضرات التعليم في مدرسة الكتاب المقدَّس الصيفيَّة والخلوات والمؤتمرات فيها عنصرٌ كرازيّ، وكلِّيَّات اللاهوت المعمدانيَّة بجميع أنواعها موجودة ليس فقط للتعليم، بل للكرازة أيضًا.

علاوةً على ذلك، هناك هدفٌ مزدوج لخدمات الرحمة وتلبية الاحتياجات البشريَّة (متَّى 25: 31-46) التي يُقدِّمها المعمدانيُّون، وهو تسديد الاحتياجات المادِّيَّة والعقليَّة والعاطفيَّة، ومشاركة رسالة الإنجيل. ويعتقد معظم المعمدانيِّين أنَّ تلبية الاحتياجات لا تكون كافيةً إلَّا بعد تلبية الاحتياجات الجسديَّة والروحيَّة.

يؤسِّسُ المعمدانيُّون منظَّماتٍ محدَّدة، ويَعقِدون اجتماعاتٍ للتَّشجيع على الكرازة وتطويرها. مثلًا، تضمُّ الطوائفُ المعمدانيَّة أقسامًا فيها الكثير من الخدَّام الذين ينظِّمونَ قوافلَ كرازيَّة، ويُساعدون الكنائس والكِيانات المعمدانيَّة الأُخرى على تحسين الكرازة، وعَقْد مؤتمراتٍ لتعليم المعمدانيِّين وإلهامهم في الكرازة. وبالمثل، لدى الكثير من كلِّيَّات اللاهوت المعمدانيَّة أساتذةٌ متخصِّصون في تعليم الكرازة.

تؤدِّي الصَّلاة لأجل المؤمنين كي يشاركوا الإنجيل بجسارة (أعمال 4: 31) وإيمان الناس بالربِّ يسوع المسيح وخلاصهم، دورًا بارزًا في الجهود المعمدانيَّة في الكرازة. في الواقع، يجب أن تدعم الصلاة كلَّ جانبٍ من جوانب الكرازة.

معوِّقات الكرازة وتحدِّياتها

تُواجِه الجهود التي يبذلها المعمدانيُّون في الكرازة معوِّقات وتحدِّيات. وبسبب الأهمِّيَّة الحيويَّة للكرازة في مساعدة الناس كي يجدوا الخلاص في المسيح، يُحاول إبليس أن يعطِّلَ هذه الجهود، كما يعوق الفتور وعدم المبالاة من جانب المؤمنين الكرازة الفعَّالة، ويرجع ذلك إلى أسبابٍ عدَّة، أهمُّها عدم النُّضج الروحيّ، وعدم فَهم الكتاب المقدَّس وحالة الارتداد.

إنَّ للخَوف دورًا في إعاقة الكرازة؛ فقد يخاف الناس منَ الفشل أو السُّخرية أو الرَّفض أو حتَّى ردود الفعل العدائيَّة إذا حاوَلوا الكرازة. ويُمكن التغلُّب على هذه المعوِّقات بإدراك أنَّ الروحَ القدس هو جزءٌ من جهود مشاركة رسالة الإنجيل (أعمال 4: 31). وعدَ الربُّ يسوعُ أنَّ الروحَ القدسَ سيمنح القوَّة للمؤمنين كي يكونوا شهودًا (أعمال 1: 8)، كما أنَّ الروح القدس، وليس الشخص الذي يشهد، هو مَنْ يضعُ القناعة والالتزام في قلبِ الشخص الذي يُنصت إلى البشارة.

وفي السياق نفسه، يمكن أن يدمِّرَ الشكُّ في تفرُّد المسيح للخلاص جهودَ الكرازة. كما أنَّ الشموليَّة (الإيمان بأنَّ الجميع سيخلصون في النهاية)، والنسبيَّة (الاعتقاد أنَّ المسيح هو أحد طُرق الخلاص، وليس الطريق الوحيد)، والمادِّيَّة (الإيمان بأنْ لا شيء موجود سوى المادَّة، ومن ثمَّ لا يوجد خلاصٌ روحيّ) هي نظريَّاتٌ سائدةٌ وتُضعفُ الكرازة.

الخلاصة

المعمدانيُّون كارزون بسبب معتقداتهم الأساسيَّة واستخدامهم وسائلَ عدَّة لمشاركة الخبر السارِّ عن يسوع المسيح. لكنَّ المعوِّقات والتحدِّيات تعطِّلُ الجهود الكرازيَّة. لكنْ بالصَّلاة والنموِّ الروحيِّ في المسيح يُمكن التغلُّب على الصعوبات، ويُمكن أن تنتشرَ الكرازةُ وتكونَ فعَّالة.

‘‘يجب أن تؤدِّيَ الكنيسةُ كلُّها العملَ العظيمَ للكرازة…يجب الاستعانةُ بكلِّ أعضاء الكنيسة في الكرازة’’.
اقتباسٌ من ‘‘وتشمان‘‘، 10 كانون الأوَّل/ديسمبر 1896م